وَ قَدْ أَعْيَتْ كُلَّ عَّلاَّمٍ بِمِلَّتِنْا
وَ دَاوُدِياً
وَ حَبْرَاً
ثُمَّ ... قِسِّيْسَا
أيـــــــوب
آخرة صبرى
عدى و فات
برعايتنا
مـــدونـــات
مواقع و عاجبانى
مزيكاتى
الجمعة، يناير ٠٦، ٢٠٠٦
توتّو نيال بّا - الجزء الأول
أذكر جيداً كيف كان أول لقاء لى مع توتّو ( توت/ تو هكذا تنطق ) , أذكر جيداً كيف كانت ملامحه , جسد نحيل , طول فارع , رأس كامل الإستدارة , شعر قصير خشن باهت, عينان ذبلتان, أسنان مضيئة فى صفحة البشرة الداكنة , ملامح منبسطة دون تعقيد تدعوا للإرتياح, وأخيراً لسان يخرج كل دقيقة يتحسس اللاشىء ثم يعود إلى الداخل ليبتلع ذلك اللاشىء فيتحرك البلعوم البارز ببطىء بالغ تحت كرمشات جلد الرقبة الطويلة, كان توتّو يجلس فى منتصف الأريكة المواجهه لمكتبى وقد صنع ظهره قوساً هائلاً ينتهى برأسٍ مدلى وقد شبك أصابع يديه أمامه بين ركبتيه المتباعدتين
على يمين توتّو كان يجلس فيتر إديالا والذى كان مفتول العضلات بالرغم من قامته القصيرة وحجمه الصغير, كان فيتر يجلس وقد قدم مؤخرته إلى مقدمة المقعد مائلاً بجسده إلى الأمام بإلتفافة قليلة إلى اليمين مقدماً كتفه الأيمن على الأيسر غارسأً ساعده الأيمن فى فخذه وذراعه الأيسر يختفى خلف ظهره فى وضع أشبه بلاعب القرص وهو يوشك أن يرمى قرصه, وقد مال أيضاً برأسه للأمام وظل يسدد إلىّ نظراتٍ حادة من عينين حمراويتين تكاد تختفى تحت حاجبين معقودين وقد ارتفع الطرف الأيمن لشفته العليا قليلاً مبرزاً خلفه أسنان تكمل الصورة على نحو بدا لى حينها وكأن فيتر يتأهب للإنقضاض على شىءٍ ما أو علىَّ شخصياً
على يسار توتّو كان يجلس نيلسون مانديلا بابا والذى كان يبدو أقرب إلى الهنود بوجهه المثلث وشعره الطويل المفرود وإن كانت باقى ملامحه مع قامته الفارعه تشير بلا أدنى شك إلى إفريقيته, كان نيلسون يتمدد بظهره إلى الوراء , يده اليمنى امتدت أفقياً على مسند الظهر خلف توتّو ويده اليسرى تستند على ذراع الأريكة الأيسر وقد وضع قدمه اليمنى فوق اليسرى وبدا أكثر إستمتاعاً بالأريكة الجلدية الوثيرة وقد بدا لى بحلته الرسمية الكاملة كمفكر يَهِّمُ بإلقاء كلمته حول موضوع هام بأحدى الندوات, على أنه ظل يبعث الىَّ بإيماءات من رأسه تدل على تفهمه العميق لكل ما يجرى حوله, هذا ما شجعنى بأن أبتدره بالسؤال عن سبب وجودهم فى مكتبى المتواضع ولكنه اكتفى فقط بالإيماء برأسه ولم تفلح العربية أو الإنجليزية فى انتزاع أى شىء سوى ثلاث كلمات " نيلسون مانديلا بابا ", حولت نظرى إلى فيتر علِّى أنجح فى التواصل معه , فإزدادت ملامحه صرامة وأشار بسبابته اليمنى إلى توتّو, لم يجبنى توتو أيضا لكنه اكتفى بإخراج ورقة صغيرة وضعها أمامى على المكتب فى حركة آلية واهنة
الورقة كانت رسالة من صاحب العمل الذى أديره أوضح فيها أن حاملى الرسالة لاجؤن سودانيون من الجنوب وأنهم بائسون يبحثون عن عمل لذا فهو يناشدنى بإسم الإنسانية أن أجد لهم أى عمل مناسب مع الأخذ فى الإعتبار بحالتهم الإنسانية
علىّ أن أعترف الآن بأنى تخوفت ورأيتهم أمامى السادة إيبولا وفاشيولا وإيدز , عذراً أيها السادة فلقد طوَّفنا بعقولنا حتى أقصى الشرق وأقصى الغرب و أقصى الشمال لكننا احتفظنا - وربما عن قصد - بصورة الجنوب كغابة كثيفة تملوءُ أشجارها القرود, ونحن نعلم أننا هنا فى وسط العالم نبدو الأكثر تخلفاً وفقراً وهمجية من أطراف الدنيا كلها ولكن يرضينا على نحو ما أن يكون هناك فى الجنوب من هم أكثر منّا تخلفاً وفقراً وهمجية
نقلت تخوفاتى تلك إلى صاحب العمل عبر الهاتف فحاول إقناعى بأنهم بؤساء ويجب علينا مساعدتهم ولكننى سددت الطريق أمامه فالقانون يمنع تشغيل الأجانب دون تصريح ثم إنهم لا يملكون شهادات صحية وهى شرط أساسى للعمل لدينا ونحن نعمل فى إدارة المطاعم, وأمام كل هذه الحجج صارحنى صاحب العمل بأنه يعلم كل ذلك لكنها ورطة وضعه فيها أحد رجال الكنيسة , ثم اقترح علىَّ أن يعملوا بعيداً عن الطعام فيكون أحدهم عند باب الدخول ينحنى مرحباً لكل زائر والآخر عند باب الخروج ينحنى أيضاً لكل مغادر أما الأخير فيسكن دورات المياة ينحنى لكل من يريد أن يقضى حاجته , وذلك بعد أن نوفر لهم زياً مبتكراً مكون من طربوش أحمر للرأس و جلباب نوبى أبيض واسع الأكمام ومزركش بالألوان, وهذه الأعمال هى أفضل ما يناسب " الحَبَّه السَّمرَه " على حد تعبيره , ولأنها أعمال بسيطة فهو يقترح أيضاً أن يكون عملهم لمدة 12 ساعة وبنصف أجر, ثم أنهى المحادثة بإقتضاب, يهوذا إذن لم يمت ولم يتعظ فهو لايزال يبيع المسيح لأجل قطعةٍ من ذهب, وهذا المخنث يريد أن يحولنى من مدير مطعم لمدير سيرك انتهيت من ضجرى لأجد ثلاثتهم ينظرون إلىَّ بقلق متهم ينتظر حكم المحكمة, ولم يطل صمتنا حتى قال توتّو بصوت بربرى حاد وهو يضغط على كل حرف " فى شغل اليوم؟؟ " , ولم أكن يومها أعلم أن توتّو تعلم العربية إثر سنوات قضاها فى الخرطوم قبل الهروب للقاهرة, ولم أجيبه لكننى اكتفيت هذه المرة بالإيماء برأسى بالأيجاب, فتهلل وجه توتّو وأضاف فى وهن " توتّو تلاته يوم ما فى أكل", و برغم قلقى الشديد من الغرباء الثلاثة إلا أن بقايا من إنسانية تمنعنى من العمل فى النخاسة, فإذا كان لابد من العمل ليكن عملاً مناسباً بأجرمناسب ولثمان ساعات فقط وليذهب صاحب العمل إلى الجحيم, إذن ليتناوب فيتر و نيلسون الصباح والمساء على حوض الأطباق بالمطبخ فهم يمتلكون صحةً مناسبةً لهذا العمل وهو عمل لا يحتاج لأى خبرة ولا يحتاج للغة وقليل من الإشارات ستكفيهم لتفهم العمل, أما توتّو فصحته تبدو معتلة لذلك فقد جعلته عاملاً للمخزن وساعياً للمكتب يأتينى بالمزيد من القهوة والشاى كلما أردت السيطرة على تلال الأوراق والأرقام وتَفَّهُّم حماقات.... صاحب العمل=================انتهى الجزء الأول ... والبقية تأتى
كتبها ايــــــــــــــــــوب :: ١:٠١ ص :: 7 نيران صديقة : ------------------o0o------------------